بقلم المهندس راجي زيتوني
النسيان، ظاهرة يعاني منها الجميع من وقت إلى آخر، وقد تُعتبر من أكثر الأمور المثيرة للجدل في الأوساط العلمية. ويعتبر البعض النسيان هبة إلهية، تساعد الإنسان على التكيّف مع الحياة والضغوطات النفسية. ويقول جبران خليل جبران “الذاكرة أحسن خادم للعقل، والنسيان أحسن خادم للقلب”… فهل النسيان نعمة تخفف من وطأة الذكريات المؤلمة، أم نقمة تعيق الإنسان عن الاستفادة من تجاربه وخبراته؟
يعتبر علم النفس أنّه يمكن للذكريات المؤلمة والصدمات النفسية أن تترك آثارًا عميقة على الفرد، ما يؤثر على حياته اليومية وصحته العقلية، وأنّ دور النسيان هنا يأتي كآلية دفاعية تُسهم في تخفيف الألم العاطفي والنفسي. وتعتبر نظرية المعالجة المعرفية (Cognitive Therapy)، أنّ النسيان يساعد الدماغ على تخفيف التوتر الناتج عن الذكريات السلبية التي قد تؤدي إلى مشاعر الحزن والاكتئاب والقلق، وأنّ هذا ما يمكّن الشخص من التعافي والمضي قدمًا في الحياة.
نقيض النسيان يعني أن يستعيد المرء ذكريات تجاربه بكليّة تفاعل كيانه معها (فكرًا ومشاعرًا وأحاسيس) داخليًّا وخارجيًّا. فالذكرى هي حصيلة تفاعل المدارك والحواس مع ظرف ما في زمان ومكان ما. فعلى سبيل المثال سماع أغنية معيّنة قد يعيد المرء بالذاكرة إلى الماضي حين تفاعل مع هذه الأغنية، فيعيش لحظات الماضي مجددًا. فكيف سيكون الأمر لو فقد المرء ذاكرته؟ ما الذي سيؤول إليه؟ ما الذي يبقى منه؟ هل سيكون الشخص نفسه؟ بالتالي هل يمكن للنسيان فعلًا أن يكون نعمة؟
ما هو دور الذاكرة في تكوين الشخصية؟
الذكريات تلعب دورًا محوريًّا في تشكيل الشخصية البشرية، من خلالها يبني المرء هويته ويوجّه سلوكياته ويطوّر علاقاته. فالذكريات هي مخزون الوعي الذي اكتسبه المرء في حياته، وذكريات التجارب السابقة تساهم في تكوين ردود الفعل والسلوكيات. فقد ورد ص15 من كتاب ”تعرّف إلى ذاكرتك“ بقلم الدكتور جوزيف ب. مجدلاني (ج ب م) مؤسّس مركز علم الإيزوتيريك الأول في لبنان والعالم العربي ”الذاكرة جزء من الوعي، بل هي القسم المتفتّح والناشط والمنظم من الوعي، أي القسم المكثف تركيزًا منه. لأنّها مقدرة على الاحتواء – احتواء المعلومات والمعارف – كما هو الوعي“.
أمّا كتاب ”تعرّف إلى وعيك“، أيضًا بقلم الدكتور مجدلاني (ج ب م)، فيشرح أقسام الوعي في الإنسان بإسهاب، وهي وعي الظاهر، وعي الباطن واللاوعي. ويشرح أيضًا أنّ الإنسان يتذكّر ما يقع ضمن وعيه الظاهر، وأنّ تطوّر الإنسان هو في أن يعي وعي الباطن، وأن يوعّي اللاوعي في كيانه عبر التطبيق العملي للمعرفة في تجارب الحياة. وبما أنّ الذاكرة هي القسم المتفتّح من الوعي، هل يمكن الاستنتاج أنّ النسيان هو أشبه بفقدان الوعي؟ فهل يُعقل بالتالي أن يكون نعمة؟
الهروب من الواقع ليس الحل!
يؤكد علم الإيزوتيريك أنّ كلّ ما اختبره المرء في الحياة يُحفظ في وعي الباطن ولو لم يستطع تذكره، لكن كيف يجب التعامل مع ذكريات التجارب الأليمة أو المعضلات الحياتية؟ فحين يواجه المرء معضلة أو مشكلة تنغّص عليه حياته ولا يتمكن الفكر من إيجاد الحلول لها، يشعر باضطراب وتشويش يسيطران على كيانه، حتى أنّه قد يشعر أيضًا بصداع أو آلام مختلفة… فإذا ما لجأ المرء إلى الهروب من الواقع بأساليب مختلفة، فهو لا يزيل بذلك أسباب الألم، كما ورد في كتاب ”تعرّف إلى فكرك“ بقلم الدكتور جوزيف ب. مجدلاني ص18 ”إذا حاول المرء إزالة تلك الأفكار من رأسه، فهو سيرتاح قليلًا… لكن الألم والاضطراب لن يزولا كليًّا إلّا متى وجد حلًا لجميع مشاكله المقلقة أو أسلوبًا إيجابيًّا للتعاطي معها“.
من الجيد أن يضع المرء الأمور المقلقة جانبًا ريثما يستعيد الهدوء والتوازن والصفاء الفكري، ليتمكّن من إيجاد الحلّ للمشكلة. ومن الممكن أيضًا اللجوء إلى واحة الحب أو أي متنفس آخر للنفس، ولكن ليس المطلوب نسيانها أو إهمالها، لأنّ ذلك قد يؤول إلى تكرار الأخطاء وعدم التعلّم من التجارب السابقة، فتتراكم ديونًا على المرء في سجل وعي الباطن كتجارب غير مكتملة.
في النهاية، أن يكون النسيان نعمة أو نقمة، أمر يحدّده مستوى وعي المرء بالشكل الذي يخدم صحته النفسية والعقلية. فعليه أن يفهم تجارب الحياة بين اللذة والألم، وأنّ التجارب المؤلمة دروس أو ديون، وأنّ الدروس التي لم يفهمها ستتكرّر بحلّة مختلفة حتى يفهمها فيرتقي. ومن خلال التطور في الوعي، يمكن للإنسان أن يعيش حياة أكثر سعادة واستقرارًا وهو يتعلّم من تجاربه.
شكراً راجي على هذه المقالة الشيقة الجديدة في موضوعها.