بقلم المهندسة ندى شحادة معوض

لطالما تحدّث علم الإيزويتريك عن ضرورة تحقيق التواضع في النفس، أحيانًا بشكل مباشر وأحيانًا أخرى بشكل غير مباشر، عبر ذكر أهمية تهذيب الأنا والعمل على إزالة السلبيات كالغرور والفوقية والعنجهية والتكبّر والاستئثار بالرأي، وغيرها من الصفات التي قد تكوّن منفردة أو مجتمعة، صفاتٍ مضادة أو معاكسة لصفة التواضع في النفس البشرية.
قد يبدو للوهلة الأولى أنّ العمل على اكتساب التواضع هو عمل على سلبيات الأنا مزامنة. فهل تكمن أهمية التواضع في سرّه ”الفتاك“ وكأنّه سهم في قلب الأنا، يخترقها في صميم محورها (السلبي) ليشلّ حركتها ويستلّ سلاحها؟
في ما يلي بحث في حقيقة التواضع على لسان مَن تجادلا في مفهوم الحقيقة عينها؛ طاغور وآينشتاين:
يقول طاغور: ”نقترب من العظمة بقدر ما نقترب من التواضع“.
ويقول آينشتاين: ”أفضّل موقفًا متواضعًا يتناسب مع ضعف إدراكنا وفهمنا لوجودنا وللطبيعة من حولنا“.
كما يقول سقراط: ”الكبرياء يفرّق البشر والتواضع يجمعهم“.
أمّا الدكتور جوزيف ب. مجدلاني (ج ب م)، مؤسّس مركز علم الإيزوتيريك الأوّل في لبنان والعالم العربي، فيذكر في كتابه ”تعرّف إلى ذكائك“ صفحة 53: ”… بقدر ما يقوى التواضع في النفس تبرز صفات التجرّد… وبقدر ما يصبح الاستماع إصغاءً إلى الآخر، يتعلّم المرء فضيلة الصبر والهدوء. ففي أثناء الهدوء الداخلي ينشط الكيان ويُنكش الفكر، فتظهر بذور الذكاء، ترتوي وتبرعم… ولا يعود الشخص المتشدّق بالكلام يميل إلى التصديق أنّه ’الأذكى‘ بين أقرانه“.
من هنا، فإنّ تركيز علم الإيزوتيريك على ضرورة التواضع لا ينطلق من قاعدة تحقيق مثالية التواصل أو التعامل أو الحوار بين الأفراد، بل من مبدأ تعرية النفس والواقع (التجرّد) بغية تقويمه، ثم الانطلاق لتحقيق الوعي الإنساني الفاعل كواحة أمان وسلام للنفس (الصبر والهدوء). هذا السلام يتبلور في الذكاء الإنساني الذي يفهم هذه المعادلة كرؤيا داخلية للنفس (يُنكش الفكر) وكرؤية موضوعية للواقع (تواضع) ما يحقق التجرّد المطلوب كأحد مقومات الفكر الثاقب والذكاء القادح.
التواضع انفتاح على عطاءات الحياة…
ما تقدّم لا يتحقّق من دون الانفتاح، فالتواضع هو بحدّ ذاته انفتاح لأنّ الانغلاق رفض وجهل وعجرفة، رفضٌ لِمَا تعطينا الحياة… فالتواضع هو فنّ الأخذ أيضًا… لأنّ الأخذ تقديرٌ مثلما العطاء تقدير… والتواضع صنو التقدير وهو ملح العطاء… العطاء بصمت، والإنجاز بصمت…
التواضع هو عدم الحكم على الآخر، أو الإقلال من شأنه أو من تجربته…
هو شعاع من ”صحوة“ الضمير… يُذكّر الإنسان أنّه وأخيه الإنسان من المصدر عينه، ومصيرهما الوحدة ذاتها.
هو الاعتراف بالخطأ، الاعتذار عنه وتصحيحه، وهو أيضًا طلب المساعدة عند الحاجة…
الشخص المتواضع لا يؤثر فيه مديح ولا يثنيه ذمّ، لكنّه أيضًا صاحب الكلام البليغ والصمت المتفهّم والكرامة التي تأبى أن تُهان. هو مَن لا يُبرز نفسه، بل يُبرز المعرفة… وهو مَن لا يفتخر ويتباهى بمعرفته، بل تفتخر المعرفة أنّه ابنها الحبيب.
أمّا الادّعاء بالتواضع، فهو أسوأ من الاعتراف بالغرور، وقد يستفز منطق اللااحتمال ليُفاجئ صاحبه على حين غرّة… فالتواضع المزيّف هو الصمت المتذمّر والغرور المستتر والفوقية التي تستغلّ الآخرين…
والجدير ذكره هنا، أنّه لا يمكن لمَن لا يمتلك شيئًا أن يتواضع. فعلامَ يتواضع؟ فالتواضع إذًا سمة الكبار… الكبار في الحياة، الكبار في نفوسهم، والكبار في معرفتهم…
فمن يتكبّر وهو لا يمتلك شيئًا، هو المدّعي، ومَن يتكبّر وهو يمتلك شيئًا، هو الخاسر، ومَن يتواضع وهو لا يمتلك شيئًا، هو الجاهل، ومَن يتواضع وهو يمتلك شيئًا، هو الواعي… أمّا مَن يتواضع وهو يمتلك كلّ شيء ولا يَمتلكُه شيء فهو ”ملك التواضع“، وتواضعه الجمّ هو معاناته الصامتة في سبيل عطاء المعرفة لإخوانه بني البشر…