بقلم الأستاذة لبنى نويهض
من منّا لم يسمع عن أسطورة الفينيق؟ هذا الطائر الذي حين تدنو لحظة رحيله، يبني عشًّا من أغصان أشجار عطرة، يحترق فيها ومعها في رقصة نارٍ أبدية… ثم، من الرماد ينبعث من جديد طائرًا أجمل ممّا كان.
لا شك أنّ هذه الأسطورة، كغيرها من الأساطير وحتى الأقاصيص الشعبية، لا تفنى لأنّها تحوي في طياتها حقائق خافية، ما يجعلها خالدة أبد الدهر… فما هي قصة تلك الأسطورة؟
مواقع عدّة على شبكة الانترنت تعرض تاريخ هذه الأسطورة. منها ما يذكر أنّ طائر الفينيق عُرف في مصر بطائر ”بينو“ (Bennu) الذي ارتبط بإله الشمس ”رع“ وبإله البعث والخلود ”أوزيريس“، ووُصف بالطائر الذي يخرج من النار ويُحيي النور والحياة. وعند الإغريق عُرف بالـ ”فينكس“، الطائر المتوهّج بالنار والمرتبطة رمزيته بالشمس الأبدية. أمّا الرومان فقد تبنّوا أسطورة الإغريق، واستخدموه رمزًا لخلود روما والإمبراطور الذي لا يموت… أمّا الصينيون فربطوا طائر الفينيق بطائر أسطوري مشابه يدعى ”فانوان“ (Fenghuang). كما تروي إحدى الأساطير الكنعانية قصة الطائر الذي طار بعشّه إلى مدينة الشمس بعلبك، ثم طار من جديد إلى الجنة، لكنّه فضَّل أن يعود ويموت في أرز لبنان.
رمزية طائر الفينيق…
قصص وروايات لا تعد ولا تحصى حيكت عن طائر الفينيق، إنّما الأهم أن يستشف المرء المعاني الخافية من رمزيتها، ويستخلص العبرة منها. فبانبعاثه الدائم، يذكّر هذا الطائر الأسطوري بحقيقة الروح الخالدة ودورة الحياة الكبرى والصغرى التي وصفها مؤسس مركز علم الإيزوتيريك في لبنان والعالم العربي، الدكتور جوزيف ب. مجدلاني (ج ب م) ص 186 في مؤلفه ”كتاب الإنسان“ (الطبعة السابعة) قائلًا: ”دورة الحياة الصغرى بدأت إذ تجسّدت الروح في الإنسان… واستمرت تنتقل عبر بوابة الموت… تختفي هنا لتولد هناك، وتولد هنا لتختفي هناك، وهكذا دواليك…“. أمّا دورة الحياة الكبرى كما جاء في الصفحة عينها، ”فهي منذ نزول الروح إلى الأرض حتى عودتها الأخيرة إلى الخالق… منذ مغادرتها المصدر حتى رجوعها إليه… لتصقل بالقوة والحكمة والصفاء بالإضافة إلى المعرفة والمحبة، لتنتهي في الأزل“.
إضافة إلى حقيقة خلود الروح، يستشف المرء ما يمثله طائر الفينيق من قوة داخلية وذلك من خلال مقدرته على إحراق نفسه للانبعاث بحلّة أفضل… فإن عاين المرء عن كثب دورة حياته على الأرض، يجدها تحوي في امتداد مراحلها من الطفولة إلى الشباب فالشيخوخة انبعاثات لامتناهية من المنعطفات الحياتية والتجارب المكثفة بحلوها ومرّها… فمن خلال كلّ انغلاق داخلي يفتّحه، وكلّ عبرة يستشفها، وكلّ سلبية يعمل على اقتلاعها، وكلّ ومضة حبّ يختبرها، وكلّ خير يعمّقه في مسلكياته، وكلّ زيف يستأصله من شخصيته، وكلّ رابط إنساني يعمّقه ويقدّره، وكلّ ألم يكتوي بنيرانه، إنّما هو يحرق نفسه كطائر الفينيق لينهض من جديد، فينبعث وعيٌ جديد يُحيي إنسانيته في إشراقة جمال.
ألم… معاناة… وعي…
أجل، حياة المرء منعطفات وتجارب ودوائر نار لامتناهية، إنّما في حقيقة أمرها هذه الدوائر ”تحفز وجهة العمل السليم والحركة الفاعلة، وتحسم الجدال التي يضيّع الفرص على الإنسان، فرص التقدم والمعرفة والتطور في الوعي“ (من كتاب ”رحلة في آفاق عصر الدلو“ ص 138، بقلم ج ب م). وحقيقة الأمر أيضًا، وكما يوضح علم الإيزوتيريك، أنّ لا حياة من دون ألم إذ إنّه ”الوجه الآخر للعطاء، للسعادة، فلا تكتمل الحياة من دون هذا أو ذاك، أي من دون الوجهين معًا“ (من كتاب ”عاد ليخبر!…“ الطبعة الثالثة ص 120، بقلم ج ب م). والألم مصيره أن يتحوّل إلى معاناة فهم تصقل وعي الإنسان وترفعه شأنًا في الحياة. هذه “المعادلات” الحياتية يتحقق منها مريد المعرفة من خلال تطبيقه علم الإيزوتيريك الذي يقدّم منهج معرفي شامل ونهج تطبيقي حياتي يساعداه على معرفة نفسه وفهمها، وينيران له السبيل لتحقيق نفضات داخلية على الدوام… فينبعث جوهره الباطني الأصيل كطائر الفينيق، وتسمو روابطه الإنسانية والاجتماعية، ويعمق حسّ انتمائه إلى العائلة والمجتمع والوطن… فيولد من جديد، يولد أكثر جمالًا ووعيًا وإنسانية.
