بقلم المهندسة ندى شحادة معوض
إنّ عملي في مجال الهندسة والتصميم الداخلي، كونه مجال يجمع بين العلم والفنّ والجماليات، وكوني أمارس الرسم كهواية، كلّ ذلك جعلني أقترب من التفاصيل وأحبّها وأقدّر أهميتها. لكن وحده علم الإيزوتيريك علّمني كيف أدخل في التفاصيل وأفهم تعابيرها ورموزها، وكيف أحوّلها وعيًا كي يسكبها الوعي (من خلال التطبيق العملي) بدوره في الذكاء، فيضحي ذكاءً مشرّبًا بالتفاصيل…
لكن أين ومتى ندخل في التفاصيل، وكيف يتم ذلك؟ أهو أثناء تحليل الشؤون الحياتية اليومية؟ أم عبر الغوص في الأفكار الكبيرة منها والصغيرة؟ أم في الربط بين الأحداث والتجارب؟
ما هي التفاصيل أصلًا وكيف نُخرجها من إطار الصورة الكبرى (The Big Picture)، أو كيف نصفّيها من دائرة الشمولي والعام إلى المحدّد والخاص؟ (From the general to the specific)
لا شكّ أنّ التفاصيل هي تلك ”الأشياء“ الصغيرة الدقيقة الرقيقة، الشفّافة الشفيفة، التي تُكوّن مجتمعة جوهر الأشياء الكبيرة. أمّا البحث عن التفاصيل فهو فضول المعرفة إلى حدّ العشق، أي أن يكون مريد المعرفة حقًّا ”علامة استفهام متحرّكة“، كما ينصح المعلّم ج ب م (الدكتور جوزيف ب. مجدلاني، مؤسّس مركز علم الإيزوتيريك الأوّل في لبنان والعالم العربي). وأمّا ”الدخول“ فيها (التفاصيل) فهو فعل حسّ جمال الفكر وتفعيل حواس المنطق السامي في ربط الأمور.
اكتشاف النقصان في النفس…
الدخول في التفاصيل يعني ملاحظة وفهم الأجزاء التي يتكوّن منها الكلّ، فهمًا في العمق. ويعني أيضًا ملاحظة وفهم الأحداث التي استبقت واستتبعت حدثًا معيّنًا أو تجربة ما، وإدراك تفاعلاتنا و/أو انفعلاتنا قبل وبعد، وفي خضمّ ذلك الحدث أو تلك التجربة… باختصار، الدخول في التفاصيل يعني الغوص في العمق… وهذا ما يساعد المرء على إيجاد القطعة الناقصة أو المفقودة من الأحجية (puzzle) مهما كان ”حجم“ الأحجية كبيرًا. بمعنى آخر، اكتشاف النقصان، والأهم تحديده في نفوسنا.
إنّ علم باطن الإنسان – الإيزوتيريك يدعو كلّ مريد للمعرفة إلى ضرورة الدخول في التفاصيل، لما في ذلك من أهمية في اكتساب طاقة فكرية مميّزة، وصقل لمَلَكة التمييز ودقة الملاحظة، وتفعيل الصبر والمثابرة، وتفتيح الحكمة… أمّا النتيجة فتوسّع في الوعي وتجدّد على الصعيد الحياتي العملي، ونشاط جسدي لا مثيل له… والتجربة خير برهان.
على سبيل المثال، الدخول في التفاصيل هو عملية ”تشخيص“ دوافع الرفض والعناد والتحايل في النفس، وتحديد مواقعها وأسبابها لا سيما المبطّنة منها. هذا التشخيص هو بمثابة مساءلة النفس بغية التقييم والتقويم اللازمين، وهو المهد الذي يولد فيه الوضوح الفكري والمصارحة والمصالحة الداخلية، ما يقهر زيف النفس ويبدّد ضباب سلبياتها ويفتّح آفاق التعبير فيها.
الدخول في التفاصيل يعني أن تعمل النفس على وعي ”محيط“ المعرفة الذي ”تسبح“ فيه… لا سيما في هذه اللحظة، ما يعني العمل على تفعيل محور الوعي في النفس في وعي اللحظة. فإهمال التفاصيل قد يؤدي إلى الفوضى والخطأ والفشل، وعدم الدخول فيها مثله مثل الشرود الفارغ أمام مشهد طبيعي خلّاب!
التجربة المكتملة رصيد جديد في كنز الوعي الفردي…
الدخول في التفاصيل هو عملية نكش داخلي عُمقي لا سيما عند التعامل مع انفتاحٍ أو تجربةٍ أو تحدٍّ جديد. وفي عملية النكش هذه تتصعّد أبخرة تحدّي اللاوعي على شكل أفكار أو ردّات فعل سلبية. المطلوب هنا هو التعامل بجدّية مع الأفكار أو ردّات الفعل تلك، كونها تمثل الدليل الفاضح على وجود سلبيات عميقة ومتجذرة في النفس.
أمّا الإحاطة بالتفاصيل فيعني ألّا تبقى تجاربنا جزرًا فضائية هائمة، بل ربطها بعضها ببعض، والأهم أن نجعل من غوصنا في التفاصيل أداة نلْحِمُ بها كلّ دائرة تجربة غير مكتملة. فوحدها التجربة المكتملة هي ما يلقيها الكيان عن عاتقه، يلقيها كرصيد جديد في كنز الوعي الفردي…
التفاصيل في الحبّ هي في دقائق المشاركة، هي في فهم ما يحبّه الآخر وما لا يحبّه، هي في التجدّد وفي المفاجآت المُحبّبة، هي في لحظة أو نظرة أو همسة أو لمسة رومنسية غير منتظرة… وهي أيضًا في التعبير الحرّ المنطلق الذي لا يقيّده عيب اجتماعي متعارف عليه، أو ممنوع متوارث. إنّها تفعيل إرادة الوصول إلى الآخر بهدف فهم النفس ومكامن النقصان فيها.
التفاصيل في الحياة العملية هي في تعلّم كلّ ما لا نعرفه، وكلّ ما نظن أنّنا لسنا بحاجة لأن نعرفه، وكلّ ما لا يريدنا الانغلاق أن ننفتح عليه.
إنّ التفاصيل موجودة في حياتنا ومن حولنا شئنا أم أبَينا. وتبقى مسألة دراستها والغوص فيها مسؤولية بالنسبة لكلّ مريد معرفة، لنسائل بها نفوسنا كونها تمثل دراسة متعمقة للتجارب وللحياة وللنفس. فإمّا أن تكون نفوسنا لوحة تجريدية عبارة عن خطٍ يتيم من لونٍ واحد على مساحة بيضاء، لوحة لا يفهمها الآخرون ولا حتى صاحبها، أو أن تكون نفوسنا لوحة تعبيرية زاهية الألوان يرى كلّ شخص فيها شيئًا جميلًا وجديدًا كلّما أمعن النظر في تفاصيلها…