بقلم الأستاذة لبنى نويهض
لا شك أنّ الفضول هو رفيق الإنسان الساعي دومًا إلى التعلّم والترقي في شؤون الحياة كافة. فهو بمثابة ”المحفّز الخفيّ“ الذي يُبقي شعلة الحماسة والشغف متقدّة لاستكشاف الجديد…
إن راقبنا الأطفال، نجد أنّ الفضول طبيعة متفتّحة فيهم منذ الولادة. وهي تحثهم بوجه عام على التساؤل والاختبار والتعلّم بجرأة وحماسة وفرح، من دون كوابح ومخاوف… لكنّ هذه الطبيعة لا يلبث أن يخبو وهجها مع التقدّم في العمر… لماذا؟ وكيف في مقدور المرء أن يُحيي الفضول في داخله؟
أثبتت دراسات علمية متعددة أنّ الفضول يبلغ ذروته في الفئة العمرية الممتدة بين أربعة وخمسة أعوام، ثم ينخفض تدريجًا، ليتضاءل من بعدها بشكل جذري في الفئة العمرية الممتدة بين أربعة عشر وخمسة عشر عامًا. أمّا العوامل الرئيسة لذلك، فتعود إلى الضغوطات الأكاديمية، التوقعات الاجتماعية، الروتين، الانغلاق، الخوف، التكبّر، وإلى ما هنالك من عوامل أخرى. أيضًا، كشفت البحوث العلمية أنّ هناك ارتباطًا وثيقًا بين الفضول ونسبة إفراز هرمون السعادة – دوبامين (Dopamine) في الجسد، حيث ينخفض معدله مع فقدان المرء للفضول في حياته. ولتعزيز الفضول مجددًا في الإنسان، تقدّم مقالات علمية مختلفة، إلى جانب برامج تحفيزية متعددة، توجيهات ونصائح عملية كالتجدد، الانفتاح، تحفيز الاهتمامات والمواهب، إلى ما هنالك من وسائل أخرى…
هذا من وجهة نظر العلم بصورة عامة، لكن ماذا يكشف علم الإيزوتيريك الذي ينطلق دومًا من دراسة متعمّقة للمرء، كون منطلقه ومآبه ”الإنسان دائمًا وأبدًا…“؟ وماذا في جعبته من حقائق خافية حول الفضول؟
الطفل ’ناضج‘ باطنيًّا و’قاصر‘ ماديًّا…
يكشف علم الإيزوتيريك أنّ الإنسان يولد مع كلّ تجسّد جديد طفلًا في الوعي في عالم مبهم مجهول… يسأل ويتساءل، وفضوله يدفعه ويحثّه على التعرّف إلى عالم المادة واكتشافه رويدًا رويدًا، فيستهل رحلة تطوّر جديدة في عالم الأرض… فيما يخفّ الفضول تدريجًا في الطفل بعد عامه الخامس، لينخفض بشكل حاد مع دخوله عمر المراهقة (14-15 سنة)، كما أوضحت البحوث العلمية.
يوضح مؤسّس مركز علم الإيزوتيريك في لبنان والعالم العربي الدكتور جوزيف ب. مجدلاني (المعلّم ج ب م) في سلسلة مؤلفاته، أنّ وعي الظاهر في الطفل تتوسع مساحته على حساب وعي الباطن خاصة مع دخوله السابعة من العمر. ويوضح أبعاد هذه الحقيقة في ص 106 من كتابه ”محاضرات في الإيزوتيريك – الجزء الخامس“ إذ يقول بإنّه ”في مقدور الطفل أن يتلقَّن وأن ينتقل إلى أجواء التأمّل خلال النوم… لأنّه لم يدرك العالم المادي بعد، بل يعتاد على إدراكه شيئًا فشيئًا… فهو ’ناضج‘ باطنيًّا، و’قاصر‘ ماديًّا إن صحّ التعبير. وعندما يبلغ الحادية والعشرين ينقلب الفكر عكسيًّا، أي يصبح قاصرًا باطنيًّا (إذا ما انكفأ عن الباطن) وناضجًا ماديًّا“.
أمّا في ما يتعلق بسبب انحسار مساحة الفضول مع بلوغ المرء سن الخامسة عشرة كما أوضحت البحوث العلمية أيضًا، يوضح علم الإيزوتيريك أنّ المرء في هذا العمر يكون قد دخل المرحلة الفكرية، ”فأثناءها ينشط الفكر إلى جانب العاطفة والشخصية الذاتية“ (ص 178 من كتاب ”المرأة والرجل في مفهوم الإيزوتيريك“ بطبعته الثالثة للدكتور جوزيف ب. مجدلاني – ج ب م). ومع نضج الفكر والتقدم التدريجي في سنوات العمر، تتفتّح شخصية المرء وتتضح معالمها التي تحوي السمات الإيجابية والسلبية أيضًا. وكثيرًا ما تلعب صفات سلبية كالكسل، الخوف، التردد، الانغلاق، إلى ما هنالك من سلبيات أخرى، دورًا بارزًا وكابحًا في إخماد حبّ الفضول وعيًا أو لاوعيًا من المرء، فتراه لا يتعرّف إلى ما لا يعرفه ولا يخرج من ”واحة راحته“ التي اعتاد عليها… فهذا هو واقع البشر عامة، ومن هذا الواقع تبرز أهمية الفضول، والأصح قولًا شغف الفضول للمعرفة، معرفة كوامن النفس ومجاهلها، معرفة الكنوز القابعة فيها، ومعرفة ما يفيدها وما يعيق مسار تطورها…
صقل النفس، برنامج عمل دائم مستديم…
في ضوء كلّ ما ذُكر، كيف يمكن للمرء أن يُبقي شعلة الفضول متقدّة في نفسه؟
كطالبة إيزوتيريك، وفي ضوء ما اختبرته تطبيقًا عمليًّا لمنهج علم الإيزوتيريك، بات الفضول لازمة حياتي… إذ إنّ التعرّف إلى النهج المعرفي، إن من خلال مؤلفات علم الإيزوتيريك أو المحاضرات التي يقدمها مركز الإيزوتيريك، وما يتبعها من منهج عملي تطبيقي، هو مسار ”تحقيق الذات“… فهذا المسار الارتقائي اللولبي يثير فضول المرء للتعمق في معرفة ما لا يعرفه عن ”نفسه“… ومع كلّ خطوة باتجاه التعرّف إلى مجاهل الباطن، يترسخ الفضول المعرفي أكثر في النفس البشرية، ويصبح دفعًا وشغفًا لمزيد من المعرفة والتطبيق والاختبار، ما يذكرنا بقول الفيلسوف اليوناني الشهير سقراط ”كلّ ما أعرفه هو أنّني لا أعرف شيئًا“. فحقًا، لا فضول معرفي من دون تواضع واعتراف بحقيقة جهل الإنسان لحقيقة نفسه… ولا فضول معرفي من دون تساؤل وبحث وسعي، خاصة وأنّ الإيزوتيريك ينصح الإنسان بأن ”يبقى علامة استفهام متنقلة“… فهل من شغف وفضول أكثر من معاينة مسار تحولات خيمياء النفس ونضج الشخصية، بعد تحويل كلّ معرفة نظرية إلى وعي مختبر على أرض الواقع؟!
إنّ صقل النفس ورفع مكانتها في الحياة وفي نظام الوعي، هو برنامج عمل دائم مستديم. وهذا ليس كفيلًا بأن يُحيي الفضول في المرء فحسب، بل تراه يُحيي أيضًا شغف الحياة وحبّ التقدم والتطور، مهما علا صخب التحديات والمصاعب، ومهما تقدم المرء في العمر. فهكذا يغدو الفضول طموحًا معرفيًّا دائمًا في برنامج الوعي الإنساني الحق… فصدق من قال ”كونوا أطفالًا كبارًا وأحبّوا المعرفة كما يحب الأطفال من دون كوابح“، (ص 91 من كتاب ”اُمنيتي، هي…“، للدكتور جوزيف ب. مجدلاني – ج ب م).