بقلم المهندس راجي زيتوني
في أولى صفحات كتاب ”الإيزوتيريك – علم المعرفة ومعرفة العلم“ للدكتور جوزيف ب. مجدلاني (ج ب م)، مؤسّس مركز علم الإيزوتيريك الأوّل في لبنان والعالم، وردت العبارة البليغة ”العلم لا يطوّر نفسه… بل يطوّر الوسائل التي بها يتعرّف إلى المعرفة!“. هذه العبارة تروي قصّة العلم عبر التاريخ، فالمعرفة موجودة أصلًا والعلم يكتشفها تباعًا على مّر الزمن. وما مقولة أفلاطون الحكيم ”المعرفة تذكُّر“ سوى تعبير عن ذلك. ولكن أين توجد تلك المعرفة وما هي الوسيلة للوصول إليها؟
تاريخ العلم مليء بالقصص عن الاكتشافات العظيمة التي وردت إلى أصحابها عبر الأحلام أو الرؤى. ومن المذهل كثرة الأمثلة على ذلك، فألبرت أينشتاين جاءته نظرية النسبية في لحظة تأمل عميق، رأى فيها نفسه يسابق شعاعًا من الضوء في الفضاء. والفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت، راودته ثلاثة أحلام في ليلة واحدة ألهمته أسس المنهج العلمي الحديث، وحتى مقولته الشهيرة ”أنا أفكر، إذًا أنا موجود“.
في علم النفس، أوّل تفسير مفصّل للحلم قدّمه سيغموند فرويد كان لحلمه الخاص. هذا الحلم المعروف بـ”حلم إيرما“، مهّد الطريق لفهم اللاوعي بالنسبة لفرويد، ويُعد حجر الزاوية في علم التحليل النفسي. أمّا رائد علم النفس كارل يونغ، تلميذ فرويد، فكانت أحلامه ورؤاه دافعًا له لفهم أعماق النفس البشرية، ودليله إلى صياغة أساسيّات علم النفس الحديث.
في مجال الكيمياء، نجد أن نيلز بور قد حلم بنموذج الذرة، حيث رأى نواة الذرة والإلكترونات تدور حولها كالكواكب حول الشمس. والمدهش أنّ ديميتري مندلييف رأى الجدول الدوري للعناصر الكيميائية في الحلم. أمّا العالم الألماني فريدريك كيكوليه فاكتشف التركيب الحلقي للبنزين من حلم. والطبيب النمساوي أوتو لوفي، حصل في حلم على فكرة تجربته الحاسمة التي أثبتت انتقال الإشارات العصبية كيميائيًّا.
هل الاكتشافات هي دائمًا نتاج التحليل المنطقي والعمل المخبري؟!
ما تقدّم ليس سوى بضعة أمثلة ممّا يزخر به التاريخ. وعندما نتأمل في ذلك، نجد أنّ الاكتشافات ليست دائمًا نتاج التحليل المنطقي والعمل المخبري فحسب، إذ كما يبدو أنّ اللحظات المفصلية في مسيرة العلماء والمفكرين هي نتاج حلم أو رؤيا أو وحي أو إلهام من مصدر غير معروف للعلم السائد. وكأنّ أصحاب العقول العظيمة يستمدّون أفكارهم من بُعدٍ آخر، لكأنّها نور يتسلّل إلى وعي الإنسان الذي ما زال يجهل مصدر ذلك النور.
هذه الظاهرة تفتح الباب أمام الفكر ليبحر في آفاق لم يزرها سابقًا، وليتساءل عمّا إذا كانت المعرفة الكاملة موجودة بالفعل في أبعاد ما زالت مجهولة للعلم؟
ما فتئ علم الإيزوتيريك ينير السبيل في مؤلفاته إلى تلك الأبعاد الخفيّة التي تزخر بالكنوز. فالاكتشافات هي رسائل من الباطن قد يكون مصدرها وعي الباطن، أو الذات، أو طبقات الذاكرة الكونية. فكما يشرح الدكتور مجدلاني في كتابه ”تعرّف إلى ذكائك” ص56 حيث يقول ”أرقى المقدرات العقلية إن لم يكن أسماها حكمة على الإطلاق في عرف الإيزوتيريك، هو التلقّي من مصدر المعرفة المباشرة… سواء كان المصدر في ذات الإنسان (المعلّم الداخلي)، أو في الذاكرة الكونية (Akasha). هذا التلقّي هو ما اصطلح البشر على تسميته بالاستيحاء أو الوحي“.
أمّا في كتابه ”محاضرات في الإيزوتيريك – الجزء السادس“ ص 62 فيشرح الدكتور مجدلاني مستويات الذكاء وعلاقتها بالإنجازات الإنسانية، حيث يقول ”الذكاء في القسم الأدنى من الجسم العقلي هو الإلهام، الذي يتميّز به المكتشفون والعلماء والفنانون ورجال الفكر بوجه خاص. في حين أنّ الذكاء في القسم الأعلى من الجسم العقلي هو الإبداع والعبقرية والأعمال الخلاقة.“، ويذكر في ص 63 ”إنّ كلّ ما شهده التاريخ الإنساني حتى اليوم تنوّعت دوافعه بين الكثير من الإلهام والذكاء، والقليل من التلقّي“.
وماذا عن الإبداع الفني؟
ويبدو أنّ هذه الظاهرة تطال فروع المعرفة كافة حتى الفنون. فقول الرسام الهولندي فان غوخ ”أحلم بلوحاتي وأرسم أحلامي“، يعبر عن العلاقة العميقة بين أحلامه وإبداعه الفني. وأخيرًا وليس آخرًا الموسيقار اللبناني مروان خوري ذكر في الإعلام أنه كثيرًا ما يستلهم الألحان من الأحلام، فيستيقظ من النوم ليقوم بتسجيلها.
في الأحلام تتجلّى صور حيّة أمام البصيرة، تنقل معانٍ لا تستطيع الكلمات التعبير عنها أحيانًا. تكشف تلك الصور الحقائق كما لم ترها من قبل، ويتجلّى للبصيرة ما كان غامضًا. ”ويؤكّد علم الإيزوتيريك أنّ هذه الصور هي رحلات لاواعية في عوالم السماء، فيا ليت الإنسان يدرك حقًّا روائع هذه العوالم!“ كما ورد في ص 48 من كتاب ”رحلة في آفاق عصر الدلو“ بقلم الدكتور مجدلاني. ولا شك في أنّ أحلام أولئك المبدعين هي الأحلام الكاشفة التي أسهب في شرحها الدكتور مجدلاني في كتابه ”الأحلام والرؤى“ ص 152، والتي ترد إلى الباحث الرصين حينما يكون سعيه دؤوب في سبيل التطور والخير العام. وتجدر الإشارة إلى أنّ الإجابات قد تأتي في التأمل بعد التركيز على موضوع البحث، كما يشرح الإيزوتيريك، والبحاثة الذين لم يتقنوا التأمل، تأتيهم الإجابات في الأحلام بشكل لاإرادي.
ختامًا، حين يغفو وعي الظاهر في غياهب الليل ويستيقظ وعي الباطن، تتلاقى المدارك مع عوالم لا تراها العين في وضح النهار. هناك، في أعماق الوعي، ينبعث الإلهام وتتوالد الأفكار وتنكشف للإنسان الأسرار والكنوز. فوعي الباطن مرآة تعكس تلك العوالم التي لا تدركها الحواس المادية. وحين يغفو الفكر في حضن الليل، تنفتح نافذة على تلك العوالم، فيتسلّل منها نور المعرفة. لكأنّ المعرفة تختبئ في ظلال الباطن وتنتظر اللحظة المناسبة لتسطع في وعي الإنسان في لحظات التأمّل أو الحلم، كمشعل يتوهّج في ظلمة الليل لينير الدرب نحو الحقيقة. ويبقى في جعبة العلم أسئلة كثيرة تنتظر أوان فيض الحقائق من الباطن، حين يصبح الوعي العام أهلًا لاستقبالها.
