حوار مع المعلم
تكرار الولادات على الأرض، أو التجسّد، هو من أكثر المواضيع التي تثير فضول كلّ باحث رصين، ناهيكم عن الجدل الذي يستثيره هذا البحث… وإلى كتابه «العودة إلى التجسّد… واقعٌ أم وهم؟!» يتوسع الدكتور جوزيف ب. مجدلاني (ج ب م) في الشرح على نحو منهجي، من خلال هذا الحوار، ربطًا بتكوين الكيان الإنساني وارتباطه بأبعاد الوجود الخافية.
س- ما هي الطريق إلى معرفة باطن الإنسان؟ وهل انتهاجها يعني التخلّي عن الحياة المادية؟
ج- بقدر ما لدى المرء ميل إلى المعرفة، تفتح له المعرفة قلبها…
وبقدر ما يعتقد أنّ الباطن هو الأصل والظاهر انعكاسه… وبقدر الصدق مع النفس والطموح إلى الانفتاح والتوسّع في الشؤون الحياتيّة والمعيشيّة… يكون الإنسان قد قطع ثلاثة أرباع الطريق إلى حقيقة المعرفة الدفينة في خفايا نفسه… وتبقى تفاصيل أخرى يلمّ بها عبر الممارسة في الشؤون الحياتيّة.
الإيزوتيريك هو طريقة حياة عملانية، تربط المنظور باللامنظور. ومن الخطأ الاعتقاد بأنّ الإيزوتيريك منهجية ابتعاد عن الحياة المادية، بل هو ترويض رغبات النفس من خلال استبدال الصفات السلبية ببديلها الإيجابي في خضم حياة المادة…
أهم ما يعلّمه الإيزوتيريك هو بناء الشخصية القوية، الشخصية المُحبّة والمحبوبة، من خلال تقوية الفكر… وهذا ما لا تدرّسه الجامعات ولا يفطن إليه علم النفس.
س- الالتزام بمنهج علم الإيزوتيريك يتطلب دراسة ذاتية. ومن المحتمل ألّا تكتمل مرحلة الوعي عند مريد معرفة الإيزوتيريك في دورة حياة واحدة… هذا يقودنا إلى جدلية تكرار الولادات على الأرض؟ ولكن ما هي الإثباتات على أنّ العودة إلى التجسّد حقيقة وليست وهمًا؟
ج- السؤال هو إجابة بحد ذاته. أي إذا لم تكتمل مرحلة الوعي في حياة واحدة، فهذا دليل أكيد على أنّ المرء سيُكمل حصد ثمار ما بدأه في حياة لاحقة… علم الإيزوتيريك يؤمن بأنّ الإنسان سائر إلى تطوّر مستمرّ، وما العودة إلى التجسّد إلا للارتقاء إلى وعي أسمى، ومفهوم أشمل يجاري التطوّر الدائم.
علم الإيزوتيريك يشرّع باب الوعي أمام الباحث عن معرفة نفسه، لتوعيته إلى مكنوناتها الخفيّة. فهو حين يطرح موضوع التجسّد، يطرحه من زاوية موضوعيّة، يؤكدها أو ينفيها الاختبار والتجربة الذاتية، شرط الانفتاح الواعي. فالانفتاح الفكري واكتساب الخبرات الحياتية المتنوعة، لا سيما المشاعرية، هو ميزة الإنسان الواعي، والاختبار الذاتي يولّد الاقتناع الصادق… وليس المهمّ بعد ذلك إن قبل المرء بالشيء أو رفضه، فالأهم أنّ الاستنتاج جاء وليد الخبرة الشخصيّة، التي يصبو كلّ إنسان إلى الاغتناء بها.
س- إن كان التجسّد حقيقة، وإن كان الإنسان موجود حقًّا في دورات حياتيّة سابقة على الأرض، أما كان ليتذكّر ماضيه؟
ج- لنستعرض الواقع بشفافية وبتجرّد كلّي؛ كم يتذكر الإنسان من حياته الحالية؟ هل يتذكر أحداث الطفولة مثلًا؟ أو تفاصيل أيام المراهقة؟ أو هل يتذكر ما مرّ معه من فترة وجيزة؟ من شهر؟ من أسبوع؟ من أيام معدودة…؟ الإنسان لا يتذكر من حياته الحالية سوى شذرات، تكاد لا تتجاوز العشرة في المئة من تفاصيل يومياته! هذا طبعًا، إن كان يتمتع بذاكرة قوية!
الإنسان لا يتذكّر معظم تفاصيل حياته الحاضرة، فكيف له أن يتذكّر وجوده السابق على الأرض؟ علمًا بأنّ هذا لا يعني أنّ جميع الأشخاص يفتقرون إلى مقدرة التذكر. فالطبيب الكندي إيان ستيفنسون (Ian Stevenson) كان أستاذًا في علم الطبّ النفسي ومديرًا لقسم الدراسات الشخصية في جامعة فرجينيا، ضمّن كتابه، «الأطفال الذين يتذكرون حياتهم السابقة»، مقابلات عدّة أجراها مع أطفال استطاعوا تذكر حيواتهم السابقة… أضف إلى أنّ هذا الطرح لم يعد من المحرمات في زمننا، كما كان في القرن الماضي… وهناك مؤلّفات وأبحاث كثيرة باتت متوفرة في هذا المضمار، من دون أن ننسى أنّ هناك الملايين من شعوب أميركا وأوروبا – عدا عن سكان الشرق الأقصى – الذين يؤمنون بالتجسّد كحقيقة لا نزاع عليها.
س- كيف نتعامل مع التجسّد في ظل قانون العدل الإلهي، أو نظام الوجود؟ وأين العلوم الأكاديمية من كل ذلك؟
ج- إنّ طرق باب العودة إلى التجسّد، في علم الإيزوتيريك، يزيل النقاب عن ألغاز كثيرة في الحياة. فغوامض قانون العدل الإلهي وخفايا النظام الطبيعي لا يُفهمان منطقيًّا، ولا يُدرَك مفعولهما عمليًّا من دون استيعاب فحوى العودة إلى التجسّد.
نرى أنّ الأكاديميين والعلماء الذين ينفون واقع التجسّد، هم الأقرب إلى التساؤل عن إمكانية وجود «فوضى إلهية» في حياة البشر! لكأنّ هنالك ظلمًا في نظام الحياة وفي الوجود برمته… الإيزوتيريك يقولها على الملأ، لكلّ شيء نظامٌ في هذا الكون يسير بموجبه، لولاه لاصطدمت الكواكب بعضها ببعض ولامّحى الكون…! إذًا، الوجود ككلّ قائم على نظام معيّن، وهذا النظام يوجزه العلم بقانون السبب والنتيجة. ويبدو أنّ العلم بمجمل فروعه قد التقى مع الإيزوتيريك حول هذه النقطة الجوهرية.
هنا يطرح علم الإيزوتيريك بعض الأسئلة؛ إذا وُلِد طفل بعاهة جسديّة معينة، فما هو السبب وراء ذلك؟ هل هو فوضى طبيعية؟ هل هو عشوائية وجودية؟ أم أنّ هذا الخلل أشبه «بخطأ مطبعي» يتوقّف إزاءه العلم – والمنطق البشري – حائرًا…؟
هنا يفترق علم الإيزوتيريك عن العلم الأكاديمي، لأنّ هذا الأخير يتوقّف حائرًا أمام هذه الحلقة المفقودة، فيعزو الخلل إلى فوضى تتخلّل النظام. ويعود الإيزوتيريك ليسأل: لماذا يصيب هذا الخلل الكائن البشري ولا يطال الكواكب والأنظمة والمجرّات؟
ويجيب الإيزوتيريك عن هذه الحلقة المفقودة موضحًا أنّ المادة تشكل عشرين في المئة تقريبًا من حقيقة الوجود الإنساني… أمّا الثمانون في المئة التي تكون اللامادة، فهي تحوي الحقائق الكبرى التي ما فتئ العلماء يبحثون عنها في نطاق المادة فقط!
س- أين تكمن إذًا ذاكرة تجسدات الإنسان؟
هي تنطوي في باطن وعيه، وقد اكتشف العلم النفسي وجود وعي الباطن على يد رائد علم النفس، سيغمويد فرويد (Sigmund Freud)، من دون أن يحدّد مكانه، ومن دون أن يدرك حقيقته كاملة. علمًا بأنّ كارل يونغ (Carl Jung)، تلميذ فرويد والباحث في علوم البواطن الإنسانية، كان قد تبحّر في هذه المعرفة بفضل تنقّلاته بين معاهد الشرق الأقصى القديمة، وغدا من المؤمنين بتكرار العودة إلى التجسّد، وغيره كثيرون.
وعي الباطن هو مقدرة خفية كامنة في كيان الإنسان الداخلي، في أجسامه الباطنية، أو أجهزة وعيه، أو مكوّناته الخافية كما شرحتها في مؤلّفاتي. يحتفظ وعي الباطن بجميع المعلومات والأحداث التي مرّت بالإنسان، أثناء دوراته الحياتية على الأرض. هذا ما اختبره الإيزوتيريك، وما تحقق من محتوياته بنفسه كلّ ملتزم بدرب معرفة الإيزوتيريك، عبر دروس خاصة وتمارين عملية. وهنا لا بد من الإشارة إلى أنّ المعضلة الأساس التي يقف عندها العلم الأكاديمي أنّه يبحث عن تلك الدورات الحياتيّة السابقة في الذاكرة الحاليّة الحاضرة، ويتوقّع من هذه الذاكرة المحدودة دليلًا قاطعًا على صحّة العودة إلى التجسّد!!!
س- ما هي الشروط التي يجب أن يستوفيها المنتسب إلى مركز علم الإيزوتيريك، لتلقي التمارين الخاصة المذكورة؟
ج- لا يمكن القيام بهذه التمارين حبًّا بالاستطلاع، بل حبًّا بالفهم ورفع مستوى الوعي الفردي في ظل مبادئ المعرفة، وخدمة الخير العام. ذلك يتطلّب تنظيف تربة النفس من السلبيات، فكل تعامل غير صادق يقود إلى نتائج عكسية. فتفتّح وعي الباطن في ظل وجود السلبيات، وإيثار المصلحة الفردية، والغايات الأنانية… كل ذلك يؤدي بصاحبه إلى نتائج ضارّة وردّات فعل عكسية مضاعفة.
س- كيف نفهم الوراثة علميًّا في ظل منطق العودة إلى التجسّد؟
ج- يكتسب الإنسان العديد من العلوم والمعلومات، عبر تجسّداته المتكرّرة على الأرض، مثلما يكتسب الكثير من السمات والطبائع ويتعرّف إلى الكثير من المناهج الفكرية… كل هذه الاكتسابات تُسجّل في باطن وعيه كذبذبات لامنظورة… مثلما هي الحال عند تسجيل معلومات (أو بيانات) على قرص مدمج… فوعي الباطن أشبه بهذا القرص حيث يسجّل فيه كلّ ما اكتسبه المرء في حيواته السابقة، ويحفظ هناك.
وكما يعيد القرص المدمج بثّ ما تسجّل عليه حين يوضع في الكمبيوتر، كذلك الأمر مع وعي الباطن. فالذبذبات المسجّلة في وعي الباطن تتحوّل، بعد العودة إلى الأرض، إلى سمات وصفات تشكّل شخصية المرء وتعطيه هويته التي يتفرد بها عن الآخرين… هذا والذبذبات المخزنة في وعي الباطن، في ذلك «العالم» غير المنظور، تمرّ بمرحلة تحوّل لتخرج إلى العالم المنظور… هذا التحوّل يحصل في جينات الوراثة (DNA) التي تُعتبر صلة الوصل بين عالم الباطن وعالم الظاهر… وهذا ما يفسّر الفروقات التي نجدها بين الإخوة من الوالدين نفسيهما.
باختصار، إنّ كلّ ما كان قد اكتسبه المرء في دورات حياتية سابقة قد تسجّل في باطن وعيه، إلى أن يعود ويتجسّد مجدّدًا على الأرض. من هنا، يقول الإيزوتيريك إنّ المرء يرث حوالي ٦٠٪ من نفسه. أمّا النسبة المتبقية فيرثها من الوالدين والمحيط من حوله.
كلمة أخيرة…
يعتبر موضوع «العودة إلى التجسّد» بمثابة دراسات عليا في سياق منهج علم الإيزوتيريك. فهذا الموضوع الشائك الذي يحيّر كلّ إنسان على الأرض، هو جزء من حقيقة وجوده الكبرى.
الإيزوتيريك هو علم ذاتي تطبيقي متكامل، وُجد من أجل الإنسان ظاهرًا وباطنًا، ومن أجل تطوير حياته ووعيه وكيانه. ومن البديهي أن يبحث كلّ إنسان عن كل ما يفيده لتحقيق الأفضل في حياته. فهل من أحد يكره التطوّر أو يسعى إلى نقيضه؟!
ننصح بالعودة إلى كتاب المعلم ج ب م «العودة إلى التجسّد… واقع أم وهم؟!» – متوفر باللغة الإنكليزية (مترجم من اللغة العربية).