بقلم المهندس زياد دكاش
بعد ربع قرنٍ من لقائنا الأوّل، وبعد سنواتٍ طويلةٍ كان فيها دعمًا لي في تخطّي رهبة الصفحات البيضاء، ومرجعًا أساسيًّا في تطوير فنّ كتابة الرواية المتعمّقة في علم باطن الإنسان – علم الإيزوتيريك، ها أنا أعود لألتقي به من جديد!
أستعيد ذكريات لقائنا الأوّل، حين أضاءت نصائحه وإرشاداته في داخلي شعلة التعبير والتفاعل العميق، ما ساعدني على صقل فنّ كتابة الرواية وتطويره. كانت تلك الشعلة زادي في إصدار ستة كتب، من بينها ثلاث روايات، جميعها في إطار علم الإيزوتيريك…
تعلّمتُ منه أنّ فنّ السرد الروائي الباطني، يحمل في طيّاته تفتّحًا داخليًّا نادرًا ما نجد له مثيلًا في أشكال الكتابة المتداولة. فمن خلال انسيابيّة السرد، يدمج الكاتب خبرات الوعي التي اكتسبها، يدمجها في أحداث الرواية وفي تجارب شخصيّاتها… يتفاعل معها، ويغوص في بُعدها ليعكس أبعاد خبراته المعرفيّة. وفي هذا النوع من السرد، يصبح نفض غبار التفكير الأكاديمي عن التعبير سهلًا، ويضحى التجرّد من أي وعظ أو تنظير لازمةً، حتى عندما يرتبط الأمر بالحقيقة عينها! هكذا تغدو الكتابة محاولات لإيجاد هذه الحقيقة من جديد، يدًا بيد مع القارئ، في أعماق سراديب الرواية…
أليست الحياة نفسها رواية نحن أبطالها ووعينا الباطني كاتبها؟
أليست الشخصيّات تجسيدًا لأبعادٍ وأوجهٍ من ذواتنا، سواء تجلّت في حياتنا الآن أو لم تتجلَّ بعد؟
تعلّمتُ منه ألّا أبحث في رواياتي عن قرّاء، بل عن أبطال لها… أبطال يجسّدون على مسرح حياتهم العملية شخصيّات الوعي… لعلّ مسار حياتهم يتحوّل إلى مغامرة وعيٍ، ومختبرٍ لخيمياء التحوّلات الداخليّة في النفس… فالرواية، وإن كانت بحثًا معرفيًّا، تأسر القارئ بمتعة التشويق والفضول، ولا تفرج عنه إلّا حين يبلغ نشوة الاكتشاف بعد تشرّب خلاصة تفاعلات الشخصيّات والأحداث. تبقى المخيّلة في أسْر التماهي مع الرواية، تتغذّى على التساؤلات الجديدة التي تتوالد في الآفاق البعيدة…
لكنّني تعلّمتُ منه أيضًا أنّ الرواية تأسر الروائي نفسه، وتحبسه في أمدٍ من الزمن مع شخصيّات وأحداث جسّدها وعاش معها فاكتشف فيها أبعادًا خافية من شخصيّته وخبرات حياته… بل إنّ لذّة السرد المتدفّقة تسلبه من أنماط الكتابة الأخرى التي قد جرّبها، لأنّ مَن تذوّق فنّ الرواية الخلّاق أدمن عليه. أدمن على تخطّي نفسه وواقعها، وعلى فنّ خلْقِ الواقع وما بعده، ليصوغه من طين الكلمات… فتنبعث فيه شعلة المعرفة…
كم أنا سعيد بلقائي به اليوم من جديد، بعد ربع قرنٍ، على رفوف المكتبات، في طبعته الثالثة! تغيّر غلافه الخارجي، لكنّ عنوانه لا يزال يسحرني ويأخذني في رحلة عبر الماضي: ”مدخل إلى التأليف والكتابة“ بقلم د. جوزيف مجدلاني (ج ب م).