بقلم المهندس
بول أبي درغام
يولد الإنسان حرّ، ثم يبدأ بفقدان حريته مع التقدم شيئًا فشيئًا في عمره الأرضي… يُطلق سراح المرء من سجن الحياة مع انتهاء كلّ دورة حياة، ليولد حرًّا من جديد حاملًا فرصة تطور متجددة هي بمثابة هدف حياته، لكنّه في معظم الأحيان غافل عن هذه الحقيقة، وعن هذا التواتر…
يولد الإنسان حرّ نسبيًا، ثم تبدأ القيود بالحدّ من حريته… قيود يبدأ الأهل بوضعها عبر تلقين الطفل مبادئ ”الخطأ والصواب“، ثم ”المكافأة والعقاب“. وتستكمل عملية ”الضبط“ و”الترويض“ عبر مناهج التربية، ثم عبر الضوابط الاجتماعية والدينية، مقرونة دائمًا بزرع الخوف من العقاب، سواء في الحياة أو في الآخرة… ومع الوقت يتبنى المرء نفسه هذه العملية، فيصبح الرقيب الذاتي والحسيب على أعماله وتصرفاته، فيلتزم بالقيود عن ”قناعة“ شبه مبرمجة، أو يثور وينتفض ويعاكس الأعراف رفضًا للقيود، لكن من دون بديل في معظم الأحيان.
لا يرى الإنسان الملتزم عن قناعة أي حدّ لحريته جرّاء هذا الالتزام، أمّا الإنسان الثائر والرافض للقيود فيعتبر أنّه حقق حريته.
هل الإنسان فعلًا حرّ؟!
الكلّ يعتبر نفسه حرًّا، لكن كلّ بحسب مفهومه الخاص للحرية. الكلّ يعتبر نفسه حرًّا لأنّ الحرية كما الكرامة الذاتية، من الصفات القليلة التي ترفض الأنا البشرية الاعتراف بفقدانها مهما كانت حالة المرء متردية حياتيًا أو نفسيًا. قد يعترف الإنسان بواقع أنّه غير قوي في الحياة، أو غير ناجح، أو غير مستقر أو غير محبوب، لكنّه يعزّي نفسه بأنّه حرّ، لا بل قد يعزو البعض سبب واقعهم المتردّي إلى عدم المساومة على حريتهم… حتى السجين والخاضع لسيطرة الآخر وغير القادر على التعبير الحرّ، يعتبر نفسه حرًّا بفكره على الأقل… فهل الإنسان فعلًا حرّ في الحياة، أم أنّها سجن كبير يدخله بإرادة والديه ويخرج منه بإرادة القضاء والقدر؟
عرّف علم الإيزوتيريك الحرية في كتاب ”محاضرات في الإيزوتيريك – الجزء الثالث“ ص34 للدكتور جوزيف ب. مجدلاني (ج ب م)، مؤسس مركز علم الإيزوتيريك في لبنان والعالم العربي بالآتي: ”الحرية هي مدار الوعي“ (لدى كل شخص). وفي كتابه ”رحلة في رحاب الحقيقة“ ص83 ورد الآتي عن الحرية: ”إنّ الحرية لا تقاس إلّا بنسبة وعي المرء لمضمونها! فالأسر الذي يحسّه المرء بين وقت وآخر يعود إلى مساحة اللاوعي في كيانه، أو بالأحرى إلى ضيق مساحة الوعي الذي يعيش فيه…“.
الإنسان أسير عالم الأرض ليس انتقاصًا من حريته في الحياة، أو لأنّه لا يملك حرية مغادرته، الإنسان أسير عالم الأرض لأنّه تائه في سراديب المادة، منشغل بتفاصيلها، غارق في تعقيداتها وعاجز عن شمولية الرؤية ووضوح الهدف.
يكشف علم الإيزوتيريك أيضًا في كتاب ”الأشعّة الروحية-الإنسانية-البشرية“ ص182 للدكتور مجدلاني أنّ ”تطور أشعة البشرية جمعاء هو الهدف المحدد للإنسان، وهو المهمة الرئيسية التي جاء الإنسان من أجلها إلى الأرض، وهي البدء داخليًّا بتطوير وعيه على جميع الصعد“.
إذًا، الحياة الأرضية مختبر مادي وحقل تجارب ”يدخله“ الإنسان لاستكشاف غوامض نفسه ولتفعيل اللاوعي في حقوله التفاعلية، واختبار مقدراته على ”حلباته“، ومعاينة حقيقة ذاته تحت مجهره.
تحولت حياة البشر إلى متاهة مادية ودوامة نفسية وسجن حياتي، عندما ضاع الهدف وتفاقم التشعب في المادة وعَمُق الإبحار في محيطها من دون بوصلة…
الإنسان ليس حرًّا بالمطلق، وفي الوقت عينه ليس أسير الحياة… عالم الأرض هو عالم النسبية، يخضع لقوانينه كلّ ما يدخل في نطاقه، حتى الحرية…
الحياة ليست سجنًا ولا حرية مطلقة، الحياة لغز لا تتكشف أبعاده سوى بمعرفة هدف الحياة وهدف الإنسان وهدف الخلق، ولو معرفة نسبية…
الحياة مسار يبدأ بفهم المرء لقوانين الحياة وعدل ناموسها ومحبة نظامها، ولو معرفة نسبية أيضًا…
الحرية الحق…
في ضوء ما تقدم، يمكن الاستنتاج أنّ المعضلة تكمن في محدودية الإنسان في فهم الحياة وقوانينها، وفي التقيد الحرفي بأنظمتها بدلًا من الاسترشاد بجوهر مغزاها. في ما يلي نظرة من زاوية مختلفة لتجنّب بعض القيود الاجتماعية والذاتية:
* الحرية الحق هي في فهم العادات والتقاليد بعيدًا عن التصلب، وفهم الإرشادات الدينية بعيدًا عن التعصب، وإدراك الأنظمة الاجتماعية بعيدًا عن الانغلاق…
* الحرية الحق هي في مراقبة النفس وضبط إيقاعها، لكن في ظل معرفة النفس الحق وبعيدًا عن جمود الأنماط السائدة والقيود المتوارثة.
* الحرية الحق هي في اقتلاع مشاعر الخوف بأشكالها كافة من النفس، بدلًا من تغذيتها وتوسيع سطوتها. فالخوف عدو التطور في الوعي وبالتالي العدو الأول للحرية…
* الحرية الحق هي في اكتشاف السلبيات النفسية والاعتراف بوجودها بغية التخلص منها بعيدًا عن جلد النفس، لأن السلبيات هي القيود الداخلية الحقيقية التي تكبّل الحرية وليست الأنظمة والشرائع.
* الحرية الحق هي التزام واعٍ ومدرك بدخول “المتاهة” ولكن في ضوء هدف محدد ووجهة واضحة.
* الحرية الحق هي في التواضع أمام عظمة الحياة، مهما علا شأن إنجازات المرء الحياتية المادية.
* الحرية الحق هي في تقدير النفس وعدم الشعور بالدونية أو الإحباط أمام نجاحات الآخر، لأنّ الكلّ متساوٍ بالوصول إلى الهدف والكلّ يحظى بفرص الحياة.
الحياة مسار تحرر يسلكه الإنسان فيغدو أكثر تحررًا مع كلّ تجربة حياتية أثمرت وعيًا، ومع كلّ تفتّح لللاوعي تحوّل إلى وعي مكتسب، ومع كلّ معاناة أو ألم صقل النفس، فازدادت حكمة ونضج معرفي… قد تكون الحرية في أسمى معانيها انعتاق من عالم الأرض، ومسار التحرر في الحياة الأرضية عماده الوعي المرتكز على فهم العلاقة بين الظاهر والباطن، بين المادة واللامادة…
وعندما يدرك المرء أنّ عالم الأرض برمّته محطة على مسار التطور الشامل ودرجة على سلم الترقي، آنئذٍ، يدرك أنّ حرية النفس تكمن في التوق إلى الذات، وحرية البشري في السعي نحو الإنساني، وحرية المادة في أصلها اللامادي، وحرية عالم الظاهر انعكاس للامحدودية عالم الباطن، وحرية الأرض مستمدة من السماء…