تأثير الموسيقى في الإنسان بقلم المهندس راجي زيتوني

منذ القدم، كانت الموسيقى متعة تَطرَب لها الأذن، ولذّة يبتهج لها القلب، وذكرى توقظ الحنين في النفس. فالألحان العذبة التي ابتكرها مبدعو الموسيقى ظلت على مرّ العصور ملاذًا يلجأ إليه كل قلب مفطور، وتأوي إليه كل نفس ظامئة. حتى أنّ العلاج بالموسيقى أصبح أمرًا رائجًا تُدرّسه الجامعات ويستخدمه الأطباء وعلماء النفس… فما هو سر تأثير الموسيقى في الإنسان؟
قام العديد من العلماء بدراسات حول تأثير الموسيقى في النفس والدماغ، منذ أوائل القرن الماضي، منهم عالم الأعصاب والجراح تشارلز ليمب (Charles Limb). أجرى هذا العالم سلسلة بحوث لدراسة علاقة الموسيقى بدماغ مؤلفها ومتلقيها، محاولًا التعمّق في فهم مصدر الإبداع الموسيقي ومكمنه، وذلك عبر إخضاع عدد من نجوم الموسيقى للتصوير بالرنين المغناطيسي خلال العزف أو الارتجال. وقد وجد أنّ الألحان تستطيع تحفيز مناطق عدة في الدماغ أثناء سماع الموسيقى. كما أثبت وجود اختلافات في حجم المادة الرمادية في مناطق عدة من الدماغ، تنشط أثناء عزف الموسيقى. وخلُصت الدراسات إلى أنّ لكلّ آلة موسيقية تأثير بموقع معين من الدماغ، تتكثّف فيه التفاعلات أثناء العزف وتظهر بوضوح في حجم التلافيف. بالتالي فإنّ تأثير الموسيقى في النفس والجسد ليس علاجيًّا فحسب، إنّما لعزف الموسيقى توقيع خاص في أدمغة العازفين!
الموسيقى لغة كونيّة، فجميع الكائنات تتفاعل معها وتتأثر بها حتى النباتات. وتأثير الموسيقى هذا ما زال يحيّر العلماء حتى الآن، إذ لم يجدوا تفسيرًا شافيًا له بعد. ويوضح علم الإيزوتيريك في محاضرة بعنوان «سيكولوجية الموسيقى وتأثيرها الباطني» في كتاب «محاضرات في الإيزوتيريك – الجزء الرابع» بقلم المعلّم (ج ب م)، أنّ التفاعل مع الموسيقى يتمّ عبر الحقل الكهرطيسي أو الهالة الأثيرية، أكان إنسانًا حيوانًا أم نباتًا. وأنّ سرّ هذا التفاعل يكمن في طبيعة الموسيقى الذبذبية التي تتفاعل مع ما يماثلها في أجهزة الوعي اللامرئية في الإنسان، أي الأجسام الباطنية، كونها ذبذبية التكوين…
ورد في كتاب المعلّم “عالم الفنون” ص118 أنّ «الموسيقى تؤدي إلى التناغم بين كيان الإنسان الداخلي والخارجي، عبر ذبذبات سامية تستطيع التسلل إلى الأجسام الباطنية والاحتكاك مع ذبذباتها والتجاوب معها… والانسجام مع الموسيقى الراقية وتذوّقها يؤديان إلى حصول ’ارتجاجات‘ معيّنة في المنافذ المغلقة التي تحيط بالأجسام الباطنية، ما يساعد على تفتحها رويدًا رويدًا».
تذوّق الموسيقى علاج نفسي وتفتّح داخلي لأجهزة وعي الإنسان، أمّا عزف الموسيقى فيغيّر البنية الدماغية ويساعد على إيقاظ مَلكات الإبداع والابتكار. ومحاضرة «سيكولوجية الموسيقى وتأثيرها الباطني»، المذكورة آنفًا، تكشف ما لم يكتشفه العلم بعد عن تأثير الآلات الموسيقية في الكيان الإنساني، وتطابق تراتبية آلات الاوركسترا مع تراتبية أجهزة وعي الإنسان. فالآلات الوترية تتفاعل مع الفكر، وآلات النفخ مع المشاعر، وآلات القرع مع الجسد… و«ائتلاف أصوات جميع هذه الآلات مع بعضها البعض، بإيقاع معيّن وبتناغم نوتات معيّنة يثير المخيلة ويطلق العنان للإبداع الفكري». ولعلّ هذا ما يفسّر كلام الفيزيائي ألبرت آينشتاين عن الموسيقى حين قال إنّ: «نظريّة النسبيّة أتتني كإلهام، والموسيقى كانت القوة الدافعة وراء ذلك الإلهام. ولو لم أكن فيزيائيًّا، لأصبحت موسيقيًّا».
من جهة أخرى، يوضح علم الإيزوتيريك أنّ التناغم بين مكونات النفس (جسد- مشاعر- فكر) أساس الراحة النفسية. إنّ عزف الموسيقى يعزّز هذا التناغم لأنّه يتطلّب النظام والتنظيم والدقّة، ويجعل أجهزة الوعي تعمل بانسجام كفريق عمل موّحد. فإذا ما تمعّن العازف بنفسه خلال العزف، وجد أنّ كيانه ككلّ يتفاعل مع الأنغام… الفكر قائد الاوركسترا ينظّم ويوزّع الأدوار، والمشاعر تتماوج وتناجي الفكر بجمال النغم، فيما الجسد يضبط الإيقاع ويتفاعل بجميع أعضائه حتى أدق شرايينه…
ختامًا، ليست الموسيقى وحدها ما يساعد الإنسان على التطوّر في الوعي. فسائر الفنون لها الأثر ذاته، لأنّها تساهم بصقل النفس. وأستشهد بما ورد في محاضرة للمعلّم بعنوان «دور الفنون في صقل الشخصية البشرية»، «للفنون التأثير الأكبر في الباطن الإنساني. فصحيح أنّ الفنون تضفي الرونق على جوانب كثيرة من الحياة، ولكنّ الدور الأساس للفنون يرتكز على كونها تُحدث تجددًا باطنيًّا. فالفنون تتفاعل مع جوانب غافلة في باطن وعي النفس تُدخل إليها الحركة المتجددة فيتحول الحيّز الكامن فيها إلى حيّز فاعل».