هل في المسامحة انتقاص لكرامة المرء أم فرصة لتوسيع الوعي؟
بقلم لبنى نويهض
كوننا نعيش على الأرض، في عالم النسبية، فإننا عرضة لارتكاب الأخطاء… لا بل الخطأ قد يكون خطوة إلى توسيع وعي المرء شرط أن يقترن بالتعلّم وتقويم الأسباب التي أدت اليه…
”هل نستطيع أن نسامح مَنْ أساء إلينا وكيف؟“
أن نقترف خطأ ما، ونعمل على تصحيحه على قدر مستوى وعينا أمر قد يتقبّله كل منا… لكن، هل نتقبّل المواقف التي يخطئ فيها الآخرون تجاهنا؟؟؟ فحين يُنتَهك حق أحدنا، حين يسيء أحدهم إلى سمعتنا أو إلى عملنا وشخصنا، وحين يكون ’الجرح ساخنًا‘، كيف تكون ردة فعلنا؟ فهل نستطيع أن نسامح مَنْ أساء إلينا وكيف؟ وهل في المسامحة انتقاص لكرامة المرء؟
معلومٌ أنّ علوم الايزوتيريك هي علوم انسانية بامتياز… تقدّم النهج العملي والمنهج العملاني في أكثر من ثمانين مؤلفًا لتاريخه وفي سلسلة من المحاضرات العامة المجانية في لبنان والعالم العربي كي تساعد المرء على التعرّف إلى نفسه وتطوير وعيه الداخلي حتى يرتقي في عيشه… فمن خلال تطبيق هذه العلوم الراقية يفعِّل المرء انسانيته ويطور وعيه شيئًا فشيئًا… من هنا، ترتكز علوم الايزوتيريك في معالجة موضوع المسامحة على فهم حالة النفس البشرية ومنطق الطباع الفردي كي تقدّم المنهج العملي الشافي. وهذا المنطق حين يرتبط بمسامحة الآخر على أخطائه يمّر بقاعدة رباعية تتلخّص بالغضب والتجاهل، ألا نرد الإساءة بالمثيل، والتناسي.
”قاعدة رباعية تتلخّص بالغضب والتجاهل، ألا نرد الإساءة بالمثيل، والتناسي.“
فهذه الرباعية تشكّل بحدّ ذاتها المسار العملي التي تحوّل الحالة النظرية للمسامحة إلى حالة عملية واعية يتقارب فيها الفكر والقول والعمل.
الغضب هي الحالة الاولى التي تعتري المشاعر وتؤثر على الكيان الباطني الداخلي ككل حين يُساء إلى المرء. أما حين تهدأ ثورة المشاعر، فينطلق التفكير المنطقي… أي يبدأ المرء بتجاهل المشاعر السلبية التي تعتريه تجاه الآخر، ويضعها جانبًا ليركز على فهم التجربة من خلال البحث عن الاسباب الخافية التي أدت إلى حصولها… وهذا ما يُعرف في مفهوم علوم الايزوتيريك بالمنطق السامي الذي يربط النتائج الظاهرة بالاسباب الخافية والتي تكون مرتبطة بالانسان كونه المحور للتجارب التي يتعرَّض لها… فتراه ينقّب عن الأسباب والأخطاء التي سها عن الانتباه إليها، والتي أدت إلى أن يُساء إليه. إذ إنّ منطق الايزوتيريك يقول: “إذا ما أخطأ أحدٌ في حقنا، لنبحث عن الخطأ الذي كنا قد ارتكبناه”.
”حتى الاساءة ليست سوى تجربة يستطيع المرء أن يصقل من خلالها شخصيته.”
حياتيًا، قد يفقد الانسان هذا المنطق في سَوْرة الغضب وهيمنة المشاعر السلبية التي تعيق عمل الفكر، فتدفعه إلى التذبذب بين الرؤية الايجابية والنظرة السلبية للأمور… خاصة وأنّ ’الأنا الفردية‘ أو ’الايغو‘ ستدافع عن نفسها لتجد جميع الذرائع والأعذار كي تضع اللوم على الآخر. لكن، حين تطول فترة الشعور ’بالجرح النفسي‘، تبدأ النفس البشرية بالتململ… وكأنّ الجانب الانساني ينتفض مطالبًا بالتقدّم والتطلّع إلى الأمام. فيسعى المرء حينها إلى البدء بتصحيح أخطائه والاقرار بأنّ حتى الاساءة ليست سوى تجربة يستطيع أن يصقل من خلالها شخصيته ويقوِّم مسلكيات لم يكن ليعمل عليها لولا ما حدث معه. بالتالي، يكون المرء قد جابه نفسه، تصالح معها، وسامح نفسه أولًا على ما ارتكبه هو من تصرفات خاطئة في الماضي التليد أو القريب مصممًا العمل على تصحيحها.
بعد المجابهة، المصالحة، ومسامحة النفس، يعود المرء إلى دراسة مشاعره وأفكاره، إنما من منطلق جديد يكون محوره فهم شعوره وموقفه تجاه مَنْ أساء إليه. وقد يجد صعوبة في التجرّد في الحكم على الآخر حيث أن مجرد التفكير فيما حصل معه قد يستفز المشاعر السلبية مجددًا في كيانه. هنا، تكمن مجددًا أهمية إعمال المنطق الايزوتيريكي الذي يتمحور حول عدم إطلاق الحكم على أي شخص وعدم محاسبة الآخرين على الأخطاء التي يرتكبونها حتى تجاهنا. إذ إنّ قانون الحياة عادل ومنصف ويحاكم الآخرين على أعمالهم. ومع هذه الخطوة العملية يكون قد فعّل الانسان الخطوة الثالثة ’بألا نسيء إلى مَنْ اساء إلينا‘.
هنا، يتبادر إلى الذهن السؤال التالي: كيف يستطيع الانسان أن يحقق الخطوة الرابعة ’التناسي‘ والذي هو مدماك اساسي لمسامحة الآخر؟
”المسامحة قوة حين تبدأ من الداخل إلى الخارج بغض النظر عن ردة فعل الآخر.“
كي ينجح المرء في تحقيق المسامحة في الواقع الحياتي معناه أنه استطاع أن يحرّر نفسه من كل شعور سلبي تجاه الآخر. وهذا لا يعني أن يحبّ من أساء إليه أو يتصرف معه كما كان معتادًا، بل أن يحرر نفسه من الكراهية عبر فهم أسباب تصرفات من أخطأ تجاهه. فمتى فهم الانسان الأسباب، واستطاع أن يتقبل أن كل انسان يخطئ، تتوسّع حينها محبته العملية مع هذا الآخر… فالمحبة الواعية هي المحبة العملية التي تنير حكمة تصرف الانسان في كيفية التعامل مع الشخص الذي أساء إليه وفقًا لنوعية العلاقة معه ونوعية الإساءة التي اقترفها تجاهه. بمعنى آخر، حين يخطئ أحدهم تجاه شخص ما، ومن ثم يسامحه عبر غضّ النظر عن خطئه وإكمال علاقته به وكأن شيئًا لم يكن، (أي من دون أن يوضح مكامن الخطأ الذي ارتكب في حقه حتى يعيد الآخر النظر في كيفية التعامل معه وتصحيح خطأه إن كان من مجال للتصحيح)، يكون التسامح هنا ضعفًا، انتقاصًا وتذليلا… ضعفًا في الشخصية وفي المواجهة… انتقاصًا في المحبة العملية، وتذليلًا لصوْن الكرامة… ولا عجب حينها أن يساء إلى المرء نفسه مرة أخرى ومن الشخص نفسه أو من شخص آخر. أما حين يضع المرء النقاط على الحروف بشكل حازم وجازم مع الشخص الذي اخطأ تجاهه حتى لو لم يصحح خطأه، فتكون مسامحته قوة… إذ إنّه حافظ على كرامته وأعطى فرصة للشخص ان يقوّم تصرفه. علمًا أنّ المرء قد يقوم بهذه المواجهة مع الآخر من دون ترقّب إعادة العلاقة أو قطعها. فالمسامحة قوة حين تبدأ من الداخل إلى الخارج بغض النظر عن ردة فعل الآخر.
”في المسامحة تحررٌ…“
في الختام، لا بد من القول إنّ في المسامحة تحررٌ… تحررٌ من سَورة الغضب وفوران المشاعر… هي مجابهة النفس، مصارحتها، مصالحتها، ومسامحتها… هي إرادة مواجهة الخطأ بالصواب… وعزم الوعي إلى الارتقاء إلى الأعلى.