حوار مع المعلم
لقد بات معلومًا أنّ الإيزوتيريك هو علم المستقبل، العلم الذي يحوي الجانب الخفي من العلوم المعاصرة… أبعاد علم الإيزوتيريك تطال الفنون أيضًا، تبحث فيها ظاهريًّا، تعالجها باطنيًّا، وتفسرها واقعيًّا… أي أنّ الإيزوتيريك يشرح الفنون من جوانبها الظاهرة والخفية، ويكشفها على حقيقتها انطلاقًا من كونه علم النواحي الغامضة من الكيان الانساني.
ولمّا كانت الفنون منوطة بهذا الحيّز، أو ناجمة عنه، يُعتبر الإيزوتيريك أدق من تحدَّث عن الفنون! إلّا أنّنا، في هذه المقابلة، لسنا بصدد التحدث عن الفنون بحد ذاتها، بل عن الإبداع الفنّي!
ما هو الإبداع الفنّي؟ ولماذا يتميز به شخص من دون آخر؟! ما هو مصدره؟ وهل من وسيلة لاكتسابه وتنميته لدى الجميع؟!
المبدعون على الأرض قلة… يبرزون في كل عصر أو قرن، وكأنّهم ندرة بين بني البشر… يُتحفون الإنسانية والعالم بنتاجهم المبدع، بعطائهم المتميز، وبخلود أعمالهم! تُرى، لمَ لا تشهد الأرض المزيد منهم؟ ولماذا يجب أن يبقوا قلة؟
أمام هذه الأسئلة التي لا نجد لها الإجابات الشافية، لا نملك سوى اللجوء إلى علم الإيزوتيريك، ليكشف لنا مؤسّسه الدكتور جوزيف ب. مجدلاني (ج ب م) ما يملكه هذا العلم حول ماهية الإبداع الفنّي. وقبل أن نبدأ الحوار، أفادنا د. مجدلاني بتوضيح حول الموضوع قائلًا:
الإيزوتيريك هو العلم الذي يتوغّل في الخفايا، في اللامنظور واللاملموس، حيث لا يجرؤ أي علم آخر على الوصول. وقبل التحدث عن الإبداع الفنّي، أودّ التوضيح أنّ ثمة عوامل ثلاثة لا وجود لها في مفهوم الإيزوتيريك، هذه العوامل هي: الصدفة، الحظ والموهبة!
فإذا ما تأمّل المرء عميقًا في معاني هذه الكلمات الثلاث، وتفكّر مليًّا في كل منها، وفي إمكانية وجودها لدى الإنسان، تأكد بنفسه أنّ وجودها يعني غياب العدل الإلهي، وغياب النظام الكوني، لكأنّه يطرح الأشياء جزافًا وعشوائيًّا، لتظهر صدفة، أو لتحقق نفسها بضربة حظ! من هذا المنطلق، يؤكد علم الإيزوتيريك عدم وجود هذه العوامل الثلاثة في حياة الإنسان، وبناءً على ذلك، يتابع (الإيزوتيريك) أبحاثه على نحو شامل، للتوصل إلى الحقيقة العارية!
أردت هذا التوضيح بدايةً لأقول إنّ الإبداع الفنّي ليس موهبة يتمتع بها، أو يتميّز بها شخص من دون الآخر، كما يعتقد البعض. بل إنّ الإبداع الفنّي هو مقدرة إنسانية كامنة لدى الجميع. لكن هناك من يعمل على توعيتها، وهناك من يدعها غافلة هاجعة… أو من يدّعي بأنّ الخالق لم يخصّه بها…!
ماذا لو نبدأ هذا الحوار بإعطائنا فكرة واضحة عن ماهية الإبداع الفنّي؟
يخبرنا العلم الحديث بأنّ الإبداع الفنّي هو مقدرة تكمن في الخلايا الدماغية لدى بعض الأشخاص فقط، وأنّ العوامل التي توجِد الإبداع الفنّي هي الوراثة، البيئة، المجتمع، والمشيئة الإلهية… بالتالي حتى العلم يعتبر، بطريقة غير مباشرة، أنّ الأمر يعود إلى «صدفة» في التكوين، أو حتمية وراثية، أو مشيئة إلهية ربما! هذا هو الاعتقاد السائد لدى الناس عامةً.
في المقابل، يشرح علم الإيزوتيريك الإبداع الفنّي بأنّه مقدرة ذاتية كامنة في كل إنسان، لا تزيد ولا تنقص من شخص إلى آخر. لكن ثمة من يعمل على صقلها وتنميتها وتطويرها، فتتجلى في أعماله خلقًا وإبداعًا… وثمة من يتجاهلها ويهملها، فتبقى هاجعة في لاوعيه. العدل الإلهي لا يفاضل بين شخص وآخر، وإلّا لما كان عدلًا! كما أنّه من العسير على هذه المقدرة أن تتطور في دورة حياتية واحدة، بل يلزمها بضع دورات وحيوات متتالية… وهذا ما لا يعرفه، أو لم يكتشفه العلم المعاصر بعد!
هل تعني بقولك هذا أنّ في مقدور كل إنسان أن يكون مبدعًا؟
صحيح، فكل إنسان يملك الوعي الكافي والمقدرة اللازمة ليكون مبدعًا. فالإبداع مسعى ذاتي يكمن في لاوعي الإنسان، فيحاول أن يحققه في حياته لاوعيًا منه أحيانًا كثيرة.
في العرف الباطني – الإيزوتيريك، الإبداع الفنّي هو وسيلة تحقيق الذات (Réalisation de Soi /Self-realisation) فكل امرئ، يسعى جاهدًا ليحقق ذاته، «والإبداع» يوفر له هذا الشعور فعليًّا.
الإبداع ليس بالضرورة القيام باكتشافات علمية بارعة… أو رسم لوحة فنّية رائعة، تنافس لوحات أشهر الرسامين العالميين! الإبداع الفنّي هو الخلق، هو إظهار ما يكمن في بواطن الذات لتحقيقها… أي لتحقيق فعل الخلق!
فإتقان العمل، إبداع!
تقديم فكرة جديدة إلى الآخرين، إبداع!
تصميم زيّ جديد، أيضًا إبداع!
واختراع آلة متطورة، إبداع كذلك الأمر…!
علمًا بأنّ درجة الإبداع تتفاوت وفق مستوى وعي الشخص المبدع… لأنّه يحقق له ذاته، أو وعيه… فتحقيق الذات هو تطبيق الوعي الذي توصل إليه الإنسان عمليًّا! بعبارة أخرى، حين يتوصل المرء إلى وعي جديد، يحاول أن يمارسه فعليًّا، ويظهره عمليًّا بواسطة إنجاز عمل ما، ملموسًا كان أو محسوسًا… أو عبر أية وسيلة أخرى، بذلك يصبح ذلك العمل تحقيقًا للذات…
هل لنا أن نستفيض في علاقة الإبداع بتحقيق الذات؟
بالتأكيد.
تحتوي الذات الإنسانية على الوعي واللاوعي، وهذا الأخير (اللاوعي) هو السائد لدى عامة البشر. لكن هذا اللاوعي ليس «مقرّ العقد النفسية»، كما يقول علم النفس، ولا هو «فراغ» كما يشعر به البعض… بل إنّ اللاوعي هو المجهول الغامض الذي لا نعرفه… إنّه مكمن المعرفة ومصدرها… إنّه موسوعة المعرفة الكاملة في كل منا…
مصير الإنسان أن يوعّي هذه المعرفة الهاجعة في لاوعيه، في نهاية مساره على درب تفتيح الوعي. فكلما تقدم خطوة على هذا المسار، تفتّح جزء جديد من لاوعيه… الأمر الذي يُشعره بالسعادة الذاتية، أو بالغبطة الروحية، وإن كان غير واعٍ لسبب ذلك الحبور! هذا مع العلم بأنّ تلك السعادة، أو الاكتفاء، أو اللذة، أو سمّها ما شئت، تتأتّى عن «نشوة» الروح… إذ تدرك بأنّ الذات خَطَت خطوة جديدة نحو هدفها، نحو المعرفة الشاملة، أو الوعي الكامل. وبما أنّ المعرفة لا تكتمل من دون وعي، وبما أنّ الوعي لا يتكامل، أو اللاوعي لا يتفتّح من دون تطبيق المعرفة عمليًّا… كان لا بدّ لهذه المعرفة الجديدة أن تُطبّق، لتصبح وعيًا ذاتيًّا!
في ضوء ذلك كله تحاول الذات (عبر مباركة الروح لها)، تحاول أن تحقق ذاتها عبر المعرفة الجديدة المكتسبة (أي تطبّق فعليًّا)… فتخلق شيئًا جديدًا يتناسب ومستوى ذلك الوعي!
هل نستنتج بأنّ العلماء الذين يبتكرون آلات وأدوات وسواها، هم في مستوى المبدعين؟
الإبداع هو «فعل خلق»… أي إيجاد شيء لم يكن من قبل…
اختراع السيارة للمرة الأولى، أو اختراع المركبة الفضائية، أو الآلة الحاسبة… كل ذلك إبداع! أو اختراع العقل الالكتروني مثلًا، أو سماعة الطبيب، أو حتى قلم الرصاص، إلخ… كل ذلك يُعدّ إبداعًا! رسم لوحة فنية لم يسبق لها مثيل… أو تقديم فكرة جديدة للإنسانية أو للمجتمع، يعتبر إبداعًا أيضًا!
وإن كان إدخال التطورات إلى المرافق الإنسانية ككل، يندرج في باب الإبداع في مفهوم البعض، إلّا أنّه أدنى مستوى في الوعي من الإبداع نفسه…! فهناك فرق واضح بين تطوير الشيء وإبداعه! فتطوير الآلة الحاسبة مثلًا، ليس إبداعًا… وكذلك تطوير السيارة، أو جهاز العقل الالكتروني، أو المركبة الفضائية… لأنّها كانت موجودة أصلًا، وكل موجود يخضع لعملية تطوير فقط، أما الإبداع فهو شيء آخر…
لماذا؟
«الإبداع» كما يصنّفه علم الإيزوتيريك، يتم عبر لحظة اتصال، أو انخطاف، بين الذات الإنسانية والذات الكلّية… التي منها انبثقت الذات الإنسانية! بواسطة هذا الاتصال، تتلقى الذات الإنسانية الأفكار الجديدة (كالتلقّي، الإلهام، أو الانخطاف الروحي، أو الرؤيا)! بتعبير آخر، الإبداع يتحقق بواسطة اتصال إنساني بالجوهر، وإن كان الإنسان لا يعي ذلك أحيانًا.
أما التطوير (أيضًا كما يصنفه علم الإيزوتيريك)، فهو مجرد اتصال بين الفكر والذات الإنسانية، الذات العليا، الكامنة في أعماق الباطن الإنساني… هذه الذات يدعوها بعض الفلاسفة وعلماء النفس «بالأنا الحقيقية»، أو «الشخصية الذاتية»، حيث يكمن اللاوعي الذي يحوي المعرفة الكاملة على كل صعيد. علمًا بأنّ المنتسبين إلى مركز الإيزوتيريك يتلقّون التفاصيل والشروحات المستفيضة في هذا الشأن…
هل هناك تمارين عملية معيّنة لاكتساب ميزة الإبداع؟
الإبداع هو أكثر من ميزة، إنّه مقدرة.
طبعًا، هناك تمارين تقدَّم تباعًا إلى المنتسبين إلى مركز الإيزوتيريك كما ذكرت… هكذا يتأكد طالب الإيزوتيريك بنفسه من النتائج الملموسة التي يتوصّل إليها…
أود أن أضيف هنا، أنّ في مقدور كل إنسان أن يسعى ليكون مبدعًا… كل وفق مستوى وعيه. وكلما رفع مستوى وعيه، تطوّر في الإبداع واستفاض فيه، وارتقى عبره أيضًا. لهذا الغرض تأسّس مركز الإيزوتيريك في لبنان، لتطوير مستوى الوعي لدى الراغبين في ذلك. فذلك هو هدف وجود الإنسان على الأرض.
بما أنّ كل شخص قادر على تطوير مقدراته وإبداع شيء جديد، ماذا لو حاول الإنسان مليًّا أن يبدع شيئًا من مقدرته ولم يستطع؟ هل عدم تمكنه من ذلك يعني نقصًا في المقدرة؟ أم أنّ المحاولة غير كافية؟ وكيف يمكن له تحقيق النجاح؟
من المهم التمييز بين النجاح، والإتقان، والإبداع… بذلك يتوضح الواقع ويسهل الوصول إلى تحقيق المرام. فالنجاح خطوة أولى نحو إتقان العمل، والإتقان خطوات متقدمة نحو الإبداع… علمًا بانّ النجاح واجب المرء، والإتقان مسؤوليته، أما الإبداع فهو إضفاء أشياء جديدة من ذات الإنسان، من مجمل تجاربه وخبراته ووعيه المكتسب، فيزيد إلى الإتقان إبداعًا… وإلى المنطق فلسفة… وإلى الحديث حكمة وبلاغة…!
وإذا كان الإتقان اكتمال الشيء، فالإبداع هو كماله!
لعل أجمل ما يجذب المثقفين إلى علم الإيزوتيريك هو منطق الأمور في تصوير الوقائع وتبسيط الأشياء. المقصود أن يهون فهمها ضمن منهج عملي تطبيقي، يتيح لمن يريد اكتشاف طاقاته ومقدراته، ممارستها في عمل متكافئ. لكن المطلوب أولًا التعمّق في البواطن (بواطن الذات)، ثم إخراج الطاقات – تفعيلًا – إلى حيز الوجود. فالمبدع شخص متميز، لذلك يجب أن تكون معرفته في حقل إبداعه متميزة، على الأقل…
أفاض الدكتور مجدلاني في الشرح، فتواصلت متعة الحوار في مسك ختامه…
وسائل الإبداع كثيرة ومتنوعة، أما انجازها فيتوقف على معرفة كل شخص ومقدرته. والأعمال المبدعة هي الأعمال الخلاقة التي تنبع من صميم الذات، من صميم الخبرة والمعاناة والتجارب والكفاح والكد والتعلم من الفشل. فبقدر ما يتعمّق المرء في معرفة خفايا نفسه الكامنة، يكتشف طاقاته ومقدراته، ويتوعّى إلى متطلّبات عمله… هكذا يأتي إنجازه تعبيرًا عن الجمال الكامن في نفسه! بمعنى أنّه يجب أن نوعي المقدرة الذاتية ونعرف مدى نشاطها، للتكيّف مع المستلزمات المادية المتوافرة… ثم وضعها على طريق النجاح أولًا، ثم الإتقان، وأخيرًا الإبداع!
الفكر التطبيقي المتزن عامل إلزامي، حتى لا يشرد الطموح الجامح بصاحبه إلى تصوّر ما لا يمكن تحقيقه. وهنا الطامة الكبرى، ليس في عدم بلوغ الهدف، بل في إضاعة الوقت والمجهود والمال، وفي القلق والاضطراب والعصبية، التي تنجم عن حالات الفشل المتكرر.
الشخصية المبدعة هي الشخصية القوية التي تتميز بالانفتاح الذهني، وبالسعي الحثيث من دون كلل أو ملل للتوصل إلى الغاية. هذا ما يجب أن يتميّز به كل من شاء أن يكون مبدعًا في عمله… وحتى لو عرف المرء الفشل مرات عديدة، فالفشل في هذه الحال له أسبابه التي يجب دراستها جيدًا… وهي غالبًا ما تكون نقصانًا في تأدية الأعمال، يجب التعلم في كيفية تفاديه في المرات القادمة. إذًا سبب الفشل ليس ضعفًا في المقدرة الفردية، بل نقصانًا في أحد المتطلبات التي يجب على المرء التوعي إليها.
وأخيرًا، يجب على المرء الذي شاء الإبداع هدفًا لأعماله، أن يعي أنّ التصور الذهني، أو الدراسة النظرية للعمل المنوي تنفيذه، هما بمثابة الرسم الهندسي (المجسّم) الذي يسترشد به المهندس قبل وضع أساس البنيان، يلي ذلك القيام بمحاولة أولية للبحث عن الأخطاء، حتى لا تتكرر دواعي الفشل، وكي ينمّي المرء حسن التمييز لديه… هكذا تزداد مقدرة التركيز الذهني عنده، بغية التطور تدريجًا في عمله. وعلم الإيزوتيريك هو منهج علمي، ودرب تطبيقي في كشف مقدرات الإنسان الكامنة، ثم العمل على صقلها في الحياة. فالمسألة ليست تأدية أعمال وتمنّ، وإلّا لأصبح جميع البشر مبدعين!
أسرار العبقرية، وسيلة ومنهجية وتقنية…! وصدق من قال إنّ الإبداع مرادف للعبقرية…!